فصل: تفسير الآية رقم (100)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلُواْ‏}‏ في اعتقادهم ‏{‏لِلَّهِ‏}‏ الذي شأنه ما فصل في تضاعيف هذه الآيات ‏{‏شُرَكَاء‏}‏ في الألوهية أو الربوبية ‏{‏الجن‏}‏ أي الملائكة حيث عبدوهم وقالوا‏:‏ إنهم بنات الله سبحانه، وتسميتهم جناً مجاز لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين كالجن‏.‏ وفي التعبير عنهم بذلك حط لشأنهم بالنسبة إلى مقام الإلهية‏.‏

وروي هذا عن قتادة والسدي، ويفهم من كلام بعضهم أن الجن تشمل الملائكة حقيقة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بهم الشياطين وروى عن الحسن‏.‏ ومعنى جعلهم شركاء أنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم‏.‏ ويروى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن الاْية نزلت في الزنادقة الذين قالوا‏:‏ إن الله تعالى خالق الناس، والدواب، والأنعام، والحيوان، وإبليس خالق السباع، والحيات، والعقارب والشرور‏.‏ فالمراد من الجن إبليس وأتباعه الذين يفعلون الشرور ويلقون الوساوس الخبيثة إلى الأرواح البشرية، وهؤلاء المجوس القائلون بالنور والظلمة ولهم في هذا الباب أقوال تمجها الأسماع وتشمئز عنها النفوس‏.‏ وادعى الإمام أن هذا أحسن الوجوه المذكورة في الآية، ومفعولا جعل قيل‏:‏ لله وشركاء، والجن إما منصوب بمحذوف وقع جواباً عن سؤال كأنه قيل‏:‏ من جعلوه شركاء‏؟‏ فقيل‏:‏ الجن، أو منصوب على البدلية من ‏{‏شُرَكَاء‏}‏ والمبدل منه ليس في حكم الساقط بالكلية وتقديم المفعول الثاني لأنه محز الإنكار ولأن المفعول الأول منكر يستحق التأخير‏.‏ وقيل‏:‏ هما شركاء والجن، وتقديم ثانيهما على الأول لاستعظام أن يتخذ لله سبحانه شريك ما كائناً ما كان، و‏{‏لِلَّهِ‏}‏ متعلق بشركاء وتقديمه عليه للنكتة المذكورة أيضاً على ما اختاره الزمخشري وقرىء ‏{‏الجن‏}‏ بالرفع كأنه قيل‏:‏ من هم‏؟‏ فقيل‏:‏ الجن وبالجر على الإضافة التي هي للتبيين‏:‏

‏{‏وَخَلَقَهُمْ‏}‏ حال من فاعل ‏{‏جَعَلُواْ‏}‏ بتقدير قد أو بدونه على اختلاف الرأيين مؤكدة لما في جعلهم ذلك من الشناعة والبطلان باعتبار علمهم بمضمونها أي وقد علموا أن الله تعالى خالقهم خاصة، وقيل‏:‏ الضمير ‏(‏للجن‏)‏ أي والحال أنه تعالى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له‏.‏ ورجح الأول بخلوه عن تشتت الضمائر ورجح الإمام الثاني بأن عود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب، وبأنه إذا رجع الضمير إلى هذا الأقرب صار اللفظ الواحد دليلاً قاطعاً تاماً كاملاً في إبطال المذهب الباطل‏.‏ وقرأ يحيى بن يعمر ‏{‏وَخَلَقَهُمْ‏}‏ على صيغة المصدر عطفاً على ‏{‏الجن‏}‏ أي وما يخلقونه من الأصنام أو على ‏{‏شُرَكَاء‏}‏ أي وجعلوا له اختلاقهم للقبائح حيث نسبوها إليه سبحانه وقالوا‏:‏ ‏{‏الله أمرنا بها‏.‏‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏ ‏{‏وَخَرَقُواْ لَهُ‏}‏ أي افتعلوا وافتروا له سبحانه، قال الفراء‏:‏ يقال‏:‏ خلق الإفك واختلقه وخرقه واخترقه بمعنى‏.‏ ونقل عن الحسن أنه سئل عن ذلك فقال‏:‏ كلمة عربية كانت العرب تقولها كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم‏:‏ قد خرقها والله‏.‏

وقال الراغب «أصل الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تفكر ولا تدبر‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 71‏]‏ وهو ضد الخلق فإنه فعل الشيء بتقدير ورفق والخرق بغير تقدير قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَرَقُواْ لَهُ‏}‏ أي حكموا بذلك على سبيل الخرق وباعتبار القطع»‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏وَخَرَقُواْ‏}‏ بتشديد الراء للتكثير‏.‏ وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم ‏{‏وحرفوا‏}‏ من التحريف أي وزوروا له‏.‏

‏{‏لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ‏}‏ فقالت اليهود؛ عزير ابن الله، وقالت النصارى‏:‏ المسيح ابن الله وقالت العرب الملائكة بنات الله والله سبحانه منزه عما قالواه ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ بحقيقته من خطأ أو صواب ولا فكر ولا روية فيه بل قالوه عن عمى وجهالة أو بغير علم بمرتبة ما قالوه وأنه من الشناعة بالمحل البعيد‏.‏ وأياً ما كان فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالاً من الواو أو نعت لمصدر مؤكد أي خرقوا ملتبسين بغير علم أو خرقاً كائناً بغير علم والمقصود على الوجهين ذمهم بالجهل، وقيل‏:‏ إن ذلك كناية عن نفي ما قالوا فإن ما لا أصل له لا يكون معلوماً ولا يقام عليه دليل، ولا حاجة إليه إذ نفيه معلوم من جعله اختلاقاً وافتراء ومن قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سبحانه وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ من أن له جل شأنه شريكاً أو ولداً، وقد تقدم الكلام في سبحان وما يفيده من المبالغة في التنزيه، و‏{‏تَعَالَى‏}‏ عطف على الفعل المضمر الناصب لسبحان‏.‏ وفرق الإمام بين التسبيح والتعالي بأن الأول راجع إلى أقوال المسبحين والثاني إلى صفاته تعالى الذاتية التي حصلت لذاته سبحانه لا لغيره والمراد بالبنين فيما تقدم ما فوق الواحد أو أن من يجوز الواحد يجوز الجمع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏بَدِيعُ السموات والارض‏}‏ أي مبدعهما «وموجدهما بغير آلة ولا مادة ولا زمان ولا مكان» قاله الراغب، وهو كما يطلق على المبدع يطلق على المبدع اسم مفعول، ومنه قيل‏:‏ ركي بديع وكذلك البدع بكسر الباء يقال لهما‏.‏ وقيل‏:‏ هو من إضافة الصفة المشبهة إلى الفاعل للتخفيف بعد نصبه تشبيهاً لها باسم الفاعل كما هو المشهور أي بديع سمواته وأرضه من بدع إذا كان على نمط عجيب وشكل فائق وحسن رائق أو إلى الظرف كما في قولهم فلان ثَبْتُ الغَدَرِ أي ثبت في الغدر وهو بغين معجمة ودال وراء مهملتين المكان ذو الحجارة والشقوق ويقولون ذلك إذا كان الرجل ثبتاً في قتال أو كلام‏.‏ والمراد من بديع في السموات والأرض أنه سبحانه عديم النظير فيهما‏.‏ ومعنى ذلك على ما قال بعض المحققين أن إبداعه لهما لا نظير له لأنهما أعظم المخلوقات الظاهرة فلا يرد أنه لا يلزم من نفي النظير فيهما نفيه مطلقاً، ولا حاجة إلى تكلف أنه خارج مخرج الرد على المشركين بحسب زعمهم أنه لا موجود خارج عنهما‏.‏ واختار غير واحد التفسير الأول، والمعنى عليه أنه تعالى مبدع لقطري العالم العلوي والسفلي بلا مادة فاعل على الإطلاق منزه عن الإنفعال بالكلية، والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه فكيف يمكن أن يكون له ولد‏؟‏‏.‏ وقرىء ‏{‏بَدِيعُ‏}‏ بالنصب على المدح والجر على أنه بدل من الاسم الجليل أو من الضمير المجرور في ‏{‏سبحانه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 100‏]‏ على رأي من يجوزه، وارتفاعه على القراءة المشهورة على ثلاثة أوجه كما قال أبو البقاء، الأول‏:‏ أنه خبر مبتدأ محذوف، والثاني‏:‏ أنه فاعل ‏{‏تَعَالَى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 100‏]‏ وإظهاره في موضع الإضمار لتعليل الحكم، وتوسيط الظرف بينه وبين الفعل للاهتمام ببيانه‏.‏

والثالث‏:‏ أنه مبتدأ خبره قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ‏}‏ وهو على الأولين جملة مستقلة مسوقة كما قبلها لبيان استحالة ما نسبوه إليه تعالى وتقرير تنزيهه عنه جل شأنه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة‏}‏ حال مؤكدة للاستحالة المذكورة ضرورة أن الولد لا يكون بلا والدة أصلاً وإن أمكن وجوده بلا والد أي من أين أو كيف يكون له ولد والحال أنه ليس له صاحبة يكون الولد منها‏.‏ وقرأ إبراهيم النخعي ‏{‏لَمْ يَكُنِ‏}‏ بتذكير الفعل؛ وجاز ذلك مع أن المرفوع مؤنث للفصل كما في قوله‏:‏ لقد ولد الأخيطل أم سوء *** على قمع استها صلب وشام

قال ابن جنى‏:‏ تؤنث الأفعال لتأنيث فاعلها لأنهما يجريان مجرى كلمة واحدة لعدم استغناء كل عن صاحبه فإذا فصل جاز تذكيره وهو في باب كان أسهل لأنك لو حذفتها استقل ما بعدها‏.‏

وقيل‏:‏ إن اسم ‏{‏يَكُنِ‏}‏ ضميره تعالى والخبر هو الظرف و‏{‏صاحبة‏}‏ مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ والظرف خبره مقدم و‏{‏صاحبة‏}‏ مبتدأ والجملة خبر ‏{‏يَكُونَ‏}‏ وعلى هذا يجوز أن يكون الاسم ضمير الشأن لصلاحية الجملة حينئذ لأن تكون مفسرة للضمير لا على الأول لأنه كما بين في موضعه لا يفسر إلا بجملة صريحة، والاعتراض بأنه إذا كان العمدة في المفسرة مؤنثاً فالمقدر ضمير القصة لا الشأن فيعود السؤال ليس بوارد كعدم اللزوم وإن توهمه بعضهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء‏}‏ استئناف لتحقيق ما ذكر من الاستحالة أو حال أخرى مقررة لها أي أنَّى يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولداً فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولداً لخالقه‏.‏ ويفهم من «التفسير الكبير» أن من زعم أن لله تعالى شأنه ولداً إن أراد أنه سبحانه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة مثلاً رد بأن خلقه للسموات والأرض كذلك فيلزم كونهما ولداً له تعالى وهو باطل بالاتفاق، وإن أراد ما هو المعروف من الولادة في الحيوانات رد أولاً بأنه لا صاحبة له وهي أمر لازم في المعروف‏.‏ وثانياً بأن تحصيل الولد بذلك الطريق إنما يصح في حق من لا يكون قادراً على الخلق والإيجاد والتكوين دفعة واحدة أما من كان خالقاً لكل الممكنات وكان قادراً على كل المحدثات فإذا أراد شيئاً قال له كن فيكون فيمتنع منه إحداث شخص بطريق الولادة‏.‏ وإن أراد مفهوماً ثالثاً فهو غير متصور‏.‏

‏{‏وَهُوَ بِكُلّ شَىْء‏}‏ من شأنه أن يعلم كائناً ما كان مخلوقاً أو غير مخلوق كما ينبىء عنه ترك الإضمار إلى الإظهار ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ مبالغ في العلم أزلا وأبداً حسبما يعرب عنه العدول إلى الجملة الإسمية، وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الولد قديماً أو محدثاً لا جائز أن يكون قديماً لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته وما كان كذلك كان غنياً عن غيره فامتنع كونه ولداً للغير فتعين كونه حادثاً، ولا شك أنه تعالى عالم بكل شيء فإما أن يعلم أن له في تحصيل الولد كمالاً أو نفعاً أو يعلم أنه ليس كذلك، فإن كان الأول فلا وقت يفرض إلا والداعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلاً قبله وهو يوجب كونه أزلياً وهو محال وإن كان الثاني وجب أن لا يحدث ألبتة في وقت من الأوقات‏.‏ وقرر الإمام عليه الرحمة الرد بهذه الجملة بوجه آخر أيضاً، وبعضهم جعل هذه الجملة مع ما قبلها متضمنة لوجه واحد من أوجه الرد، والجملة إما حالية أو مستأنفة، واقتصر بعضهم على الثاني فقال‏:‏ إنها استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان مقالتهم الشنعاء التي اجترءوا عليها بغير علم‏.‏ والظاهر من هذا أن ما في الآية أدلة قطعية على بطلان ما زعمه المختلقون، وكلام الإمام حيث قال بعد تقرير الوجوه‏.‏ «لو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يذكروا في هذه المسألة كلاماً يساويه أي ما دلت عليه الآية في القوة والكمال لعجزوا عنه»‏.‏ وادعى الشهاب أن ما يفهم من ذلك أدلة اقناعية، ولعل الأولى القول بأن البعض قطعي والبعض الآخر إقناعي فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة إلى المنعوت بما ذكر من جلائل النعوت، وما فيه من معنى البعد لما مر مراراً‏.‏ والخطاب للمشركين المعهودين بطريق الإلتفات‏.‏ وذهب الطبرسي أنه لجميع الناس، وهو مبتدأ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلّ شَىْء‏}‏ أخبار أربعة مترادفة أي ذلك الموصوف بتلك الصفات العظيمة الشأن هو الله المستحق للعبادة خاصة مالك أمركم لا شريك له أصلاً خالق كل شيء مما كان وسيكون، والمعتبر في عنوان الموضوع حسبما اقتضته الإشارة إنما هو خالقيته سبحانه لما كان فقط كما ينبىء عنه صيغة الماضي، وجوز أن يكون الاسم الجليل بدلاً من اسم الإشارة و‏{‏رَبُّكُمْ‏}‏ صفته وما بعده خبر، وأن يكون الاسم الجليل هو الخبر وما بعده إبدال منه، وأن يكون بدلاً والبواقي أخبار، وأن يقدر لكل خبر من الأخبار الثلاثة مبتدأ، وأن يجعل الكل بمنزلة اسم واحد، وأن يكون ‏{‏خالق كُلّ شَىْء‏}‏ بدلاً من الضمير، وجوز غير ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعبدوه‏}‏ مسبب عن مضمون الجملة فإن من جمع هذه الصفات كان هو المستحق للعبادة خاصة، وادعى بعضهم أن العبادة المأمور بها هي نهاية الخضوع وهي لا تتأتى مع التشريك فلذا استغنى عن أن يقال‏:‏ فلا تعبدوا إلا إياه، ويفهم منه أن مجرد مفهوم العبادة يفيد الاختصاص، ولا يأباه دعوى إفادة تقديم المفعول في ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ إياه لأن إفادة الحصر بوجهين لا مانع منها كما في ‏{‏فَلِلَّهِ الحمد‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 36‏]‏ ونحوه، وإنما قال سبحانه هنا‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمُ الله لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلّ شَىْء فاعبدوه‏}‏ وفي سورة المؤمن ‏(‏26‏)‏ ‏{‏ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خالق كُلّ شَىْء لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏ فقدم سبحانه هنا ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ على ‏{‏خالق كُلّ شَىْء‏}‏ وعكس هناك‏.‏ قال بعض المحققين‏:‏ لأن هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 100‏]‏ الخ فلما قال جل شأنه‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ‏}‏ أتى بعده بما يدفع الشركة فقال‏:‏ عز قائلاً ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ ‏{‏ثُمَّ خالق كُلّ شَىْء‏}‏ وتلك جاءت بعد قوله سبحانه ‏{‏لَخَلْقُ السموات والارض *أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏ فكان الكلام على تثبيت خلق الناس وتقريره لا على نفي الشريك عنه جل شأنه كما كان في الآية الأولى فكان تقديم ‏{‏خالق كُلّ شَىْء‏}‏ هناك أولى والله تعالى أعلم بأسرار كلامه‏.‏

‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ‏}‏ عطف على الجملة السابقة أي وهو مع تلك الصفات الجليلة الشأن متولي جميع الأمور الدنيوية والأخروية، ويلزم من ذلك أن لا يوكل أمر إلى غيره ممن لا يتولى‏.‏

وجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال وقيدا للعبادة ويؤول المعنى إلى أنه سبحانه مع ما تقدم متولي أموركم فكلوها إليه وتوسلوا بعبادته إلى إنجاح مأربكم، وفسر بعضهم الوكيل بالرقيب أي أنه تعالى رقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها‏.‏ واستدل أصحابنا بعموم ‏{‏خالق كُلّ شَىْء‏}‏ على أنه تعالى هو الخالق لأعمال العباد والمعتزلة قالوا‏:‏ عندنا هنا أشياء تخرج أعمال العباد من البين‏.‏ أحدها‏:‏ تعقيب ذلك العموم بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فاعبدوه‏}‏ فإنه لو دخلت أعمال العباد هناك لصار تقدير الآية إنا خلقنا أعمالكم فافعلوها بأعيانها مرة أخرى وفساده ظاهر‏.‏ وثانيها‏:‏ أن ‏{‏خالق كُلّ شَىْء‏}‏ ذكر في معرض المدح والثناء ولا تمدح بخلق الزنا واللواطة والسرقة والكفر مثلا‏.‏ ثالثها‏:‏ أنه تعالى قال بعد‏.‏ ‏{‏قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 104‏]‏ وهو تصريح بكون العبد مستقلاً بالفعل والترك وأنه لا مانع له‏.‏ رابعها‏:‏ أن هذه الآية أتى بها بعد ‏{‏وَجَعَلُواْ الله شُرَكَاء الجن‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 100‏]‏ والمراد منه على ما روي عن الحبر الرد على المجوس في إثبات الهين فيجب أن يكون ‏{‏خالق كُلّ شَىْء‏}‏ محمولاً على إبطال ذلك وهو إنما يكون إذا قلنا‏:‏ إنه تعالى هو الخالق لما في هذا العالم من السباع والآلام ونحوها وإذا حمل على ذلك لم تدخل أعمال العباد ولا يخفى ما في ذلك من النظر ومثله استدلالهم بالآية على نفي الصفات وكون القرآن مخلوقاً فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار‏}‏ جمع بصر يطلق كما قال الراغب على الجارحة الناظرة «وعلى القوة التي فيها وعلى البصيرة‏.‏ وهي قوة القلب المدركة» وإدراك الشيء عبارة عن الوصول إلى غايته والإحاطة به، وأكثر المتكلمين على حمل البصر هنا على الجارحة من حيث إنها محل القوة‏.‏ وقيل‏:‏ هو إشارة إلى ذلك وإلى الأوهام والأفهام كما قال أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ التوحيد أن لا تتوهمه وقال أيضاً كل ما أدركته فهو غيره‏.‏ ونقل الراغب عن بعضهم أنه حمل ذلك على البصيرة، وذكر أنه قد نبه به على ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قوله‏:‏ يا من غاية معرفته القصور عن معرفته إذا كان معرفته تعالى أن تعرف الأشياء فتعلم أنه ليس بمثل لشيء منها بل هو موجد كل ما أدركته‏.‏

واستدل المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يرى‏.‏ وتقرير ذلك على ما في «المواقف وشرحها» أن الإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية ولا فرق بين أدركته ببصري ورأيته إلا في اللفظ أو هما متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر فلا يجوز رأيته وما أدركته ببصري ولا عكسه، فالآية نفت أن تراه الأبصار وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة في جميع الأوقات، لأن قولك‏:‏ فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيده ما يقابله فلا يراه شيء من الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة لما ذكر ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى حيث ذكره في أثناء المدائح وما كان من الصفات عدمه مدحاً كان وجوده نقصاً يجب تنزيه الله تعالى عنه فظهر أنه يمتنع رؤيته سبحانه، وإنما قيل‏:‏ من الصفات احترازاً عن الأفعال كالعفو والانتقام فإن الأول تفضل والثاني عدل وكلاهما كمال انتهى‏.‏ وحاصله أن المراد بالإدراك الرؤية المطلقة لا الرؤية على وجه الإحاطة، وأن ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار‏}‏ سالبة كلية دائمة وهذا أقوى أدلتهم النقلية في هذا المطلب كما ذكره شيخ مشايخنا الكوراني قدس سره‏.‏ والجواب عنه من وجوه‏.‏

الأول أن الإدراك ليس هو الرؤية المطلقة وإن اختاره على ما نقله الآمدي أبو الحسن الأشعري وإنما هو الرؤية على نعت الإحاطة بجوانب المرئي كما فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بها في أحد تفسيريه، ففي «الدر المنثور» «وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار‏}‏ لا يحيط بصر أحد بالله» تعالى انتهى‏.‏ وإليه ذكب الكثير من أئمة اللغة وغيرهم‏.‏ والرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة أخص مطلقاً من الرؤية المطلقة ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فظهر صحة أن يقال‏:‏ رأيته وما أدركه بصري أي ما أحاط به من جوانبه وإن لم يصح عكسه‏.‏

الثاني أن ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار‏}‏ كما يحتمل أن يلاحظ فيه أولاً دخول النفي ثم ورود اللام فتكون سالبة كلية على طرز قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 31‏]‏ فيكون لعموم السلب كذلك يحتمل أن يعتبر فيه العموم أولاً ثم ورود النفي عليه فتكون سالبة جزئية نحو ما قام العبيد كلهم ولم آخذ الدراهم كلها فتكون لسلب العموم وكلما احتمل سلب العموم لم يكن نصاً في عموم السلب وإن كان عموم السلب في مثل هذا هو الأكثر وكلما كان كذلك لم يبق فيه حجة على امتناع الرؤية مطلقاً وهو ظاهر، هذا إذا كان أل في «الأبصار» للاستغراق فإن كان للجنس كان ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار‏}‏ سالبة مهملة وهي في قوة الجزئية فيكون المعنى لا تدركه بعض الأبصار وهو متفق عليه‏.‏

الثالث أنا لو سلمنا أن الإدراك هو الرؤية المطلقة وأن أل للاستغراق وأن الكلام لعموم السلب لكن لا نسلم عمومه في الأحوال والأوقات أي لا نسلم أنها دائمة لجواز أن يكون المراد نفي الرؤية في الدنيا كما يروى تقييده بذلك عن الحسن وغيره‏.‏ ويدل عليه ما أخرجه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» وأبو نعيم في «الحلية» عن ابن عباس قال‏:‏ «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية‏:‏ ‏{‏رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏ فقال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده ولا رطب إلا تفرق وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسادهم» قولهم‏:‏ بل هي دائمة لأن قولك‏:‏ فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيده ما يقابله، قلنا‏:‏ هذا لا يتم إلا إذا وجب أن يكون التقابل من الله تعالى تدركه الأبصار و«لا تدركه الأبصار» تقابل تناقض ولا موجب لذلك لا عقلياً ولا لغوياً ولا شرعياً‏:‏ أما الأول فلأنا إذا وجدنا قضية موجبة مطلقة جاز أن يقابلها سالبة دائمة مطلقة وأن يقابلها سالبة دائمة ولا تتعين الدائمة الصادقة إلا إذا كانت المطلقة كاذبة قطعاً لكن كذب المطلقة ههنا أول البحث وعين المتنازع فيه فلا يجوز أن يبنى كون ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار‏}‏ دائمة على كذب هذه المطلقة أعني الله تعالى يدركه الأبصار مراداً بها أبصار المؤمنين في الجنة والموقف لأنه مصادرة على المطلوب المستلزم للدور، وأما الثاني فلأن الجملة ثبوتية كانت أو منفية تستعمل بحسب المقامات تارة في الإطلاق وتارة في الدوام وليس يجب في اللغة أنا إذا وجدنا جملة مثبتة استعملت في مقام ما في معنى الإطلاق أن تكون الجملة المقابلة لها مستعملة في معنى الدوام ألبتة بل يخلتف باختلاف المقامات وقصد المستعملين لها وهو ظاهر جداً، وأما الثالث فلأن المطلقة المذكورة بالمعنى السابق عين المتنازع فيه بيننا وبين المعتزلة شرعاً فنحن نقول إنها صادقة شرعاً ونحتج عليها بالعقل والنقل من الكتاب والسنة، وكلما كان كذلك لزم أن لا يكون ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار‏}‏ دائمة دفعا للتناقض فتكون إما مطلقة عامة أو وقتية مطلقة، وعلى التقديرين لا تناقض لانتفاء اتحاد الزمان فيصدق الله تعالى تدركه الأبصار أي أبصار المؤمنين يوم القيامة مثلاً أو وقت تجليه في نوره الذي لا يذهب بالأبصار الله تعالى لا تدركه الأبصار أي في الدنيا بالقيد الذي أشير إليه سابقاً أو وقت تجليه بنوره الذي يذهب بالأبصار وهو النور الشعشعاني المشار إليه في الحديث الوارد في «صحيح مسلم» وغيره

‏"‏ لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره ‏"‏‏.‏ وإلى هذا التقييد يشير ثاني تفسيري ابن عباس المتقدم أولهما‏.‏ فقد روي أنه قال‏:‏ ‏"‏ رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه فقال له عكرمة‏:‏ أليس الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار‏}‏ فقال‏:‏ لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء ‏"‏ الحديث‏.‏ وبإثبات هذين النورين يجمع بين جوابيه عليه الصلاة والسلام لأبي ذر حيث سأله هل رأيت ربك‏؟‏ فقال في أحد جوابيه‏.‏ «نور أنى أراه»‏.‏ وفي الجواب الآخر «رأيت نوراً» فيقال‏:‏ النور الذي نفى رؤيته في الاستفهام الإنكاري المدلول عليه بأنى هو نوره أعني النور الذي يذهب بالأبصار ولا يقوم له بصر، والنور الذي أثبت رؤيته هو النور الذي لا يذهب بالأبصار‏.‏ وكذا يمكن حمل قول عائشة رضي الله عنهما‏:‏ «من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه فقد أعظم على الله عز وجل الفرية» واستشهادها لذلك بهذه الآية على هذا بأن يقال‏:‏ أرادت من زعم أن محمداً عليه الصلاة والسلام رأى ربه سبحانه في نوره الذي هو نوره الذي يذهب بالأبصار فقد أعظم على الله عز وجل الفرية؛ ويكون الاستشهاد بالآية على ما روي عن ابن عباس من ثاني تفسيريه، وحينئذ لا يتم للمعتزلة دعوى كون ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار‏}‏ دائمة إلا إذا كانت هذه المطلقة كاذبة شرعاً وهو عين المتنازع فيه كما عرفت فلم يبق لهم على دعوى الدوام دليل أصلاً‏.‏ وقد يقال أيضاً‏:‏ المراد نفي الرؤية وقت عدم إذن الله تعالى للأبصار بالإدراك، والدليل على صحة إرادة هذا القيد هو أن إرادة الأبصار فعل من أفعال العبيد وكسب من كسبهم وقد ثبت بغير ما دليل أن العباد لا يقدرون على شيء ما من المقدورات إلا بإذن الله تعالى ومشيئته وتمكينه فلا تدركه الأبصار إلا بإذنه وهو المطلوب‏.‏

ويؤيد هذا البيان ويشيد أركانه أن ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار‏}‏ وقع بعد قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 102‏]‏‏.‏ ووجه التأييد أن الله تعالى أخبر بأنه على كل شيء وكيل أي متول لأموره، ومعلوم أن الأبصار من الأشياء وأن إدراكها من أمورها فهو سبحانه وتعالى متوليها ومتصرف فيها على حسب مشيئته فيفيض عليها الإدراك ويأذن لها إذا شاء كيف شاء وعلى الحد الذي شاء ويقبض عنها الإدراك قبضاً كلياً أو جزئياً في أي وقت شاء كيف شاء، ولا يخفى على هذا أنه غاية التمدح بالعزة والقهر والغلبة فإن من هو على كل شيء وكيل إذا لم تدركه الأبصار إلا بإذنه مع كونه يدرك الأبصار ولا تخفى عليه خافية كان ذلك غاية في عزته وقهره وكونه غالباً على أمره‏.‏ وذهب بعض المحققين أن الآية لم تسق للتمدح وإنما سيقت للتخويف بأنه سبحانه رقيب من حيث لا يرى فليحذر، وهو ظاهر على التفسير الثاني للوكيل‏.‏

الرابع من الوجوه يجوز أن يكون المراد لا تدركه الأبصار على الوجه المعتاد في رؤية المحسوسات المشروطة بالشروط التسعة العادية على ما يشير إليه آخر الآية، ومعلوم أن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام فلا يلزم على هذا من الآية نفي الرؤية مطلقاً‏.‏

الخامس ما قيل‏:‏ إنا لو سلمنا للخصم ما أراد نقول‏:‏ إن الآية إنما تدل على أن الأبصار لا تدركه ونحن نقول به وندعي أن ذوي الأبصار يدركونه، والاعتراض بأنه كما أن الأبصار لا تدركه فكذلك لا يدركه غيرها فلا فائدة للتخصيص مدفوع بأنه إنما يلزم انتفاء الفائدة أن لو انحصرت في نفي حكم المنطوق على المسكوت وهو غير مسلم ولعله كان بخصوص سؤال سائل عنه دون غيره أو لمعنى آخر‏.‏

السادس أنا سلمنا أن المراد لا يدركه المبصرون بأبصارهم لكنه لا يفيد المطلوب أيضاً لجواز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة مغايرة لهذه الحواس كما يدعيه ضرار بن عمرو الكوفي، فقد نقل عنه أنه كان يقول‏:‏ إن الله تعالى لا يرى بالعين وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها سبحانه له يوم القيامة، واحتج عليه بهذه الآية فقال‏:‏ إنها دلت على تخصيص نفي إدراك الله تعالى بالبصر وتخصيص الحكم بالشيء يدل على أن الحال في غيره بخلافه فوجب أن يكون إدراك الله تعالى بغير البصر جائزاً في الجملة، ولما ثبت أن سائر الحواس الموجودة الآن لا يصلح لذلك ثبت أنه تعالى يخلق يوم القيامة حاسة سادسة بها تحصل رؤية الله تعالى وإدراكه اه‏.‏

ومن الناس من استدل بالآية على أن الإطلاع على كنه ذات الله تعالى ممتنع بناء على أن الأبصار جمع بصر بمعنى البصيرة وقرره كما قرر المعتزلة استدلالهم على امتناع الرؤية وفيه ما فيه‏.‏

نعم احتمال حمل البصر على البصيرة مما يوهن استدلال المعتزلة كما لا يخفى، ولهم في هذا المطلب أدلة أخرى نقلية سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على بعضها، وعقلية قد عقلها القوم في معاطن البطلان‏.‏ ولعل النوبة تفضي إلى تسريح يعملات الأقلام في رياض تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى الملك العلام فمنه التوفيق لإدراك أبصار الأفهام مخفيات الأسرار وفلق صباح الحق بسواطع الأنوار‏.‏

‏{‏وَهُوَ يُدْرِكُ الابصار‏}‏ أي يراها على وجه الإحاطة أو يحيط بها علماً أو علما ورؤية كما قيل، وذكر الآمدي أن البصريين من المعتزلة ذهبوا إلى أن إدراك الله تعالى بمعنى الرؤية وأن البغداديين منهم ذهبوا إلى أنها بمعنى العلم لا بمعنى الرؤية، والمراد بالأبصار هنا على ما قرره بعض المحققين النور الذي تدرك به المبصرات فإنه لا يدركه مدرك بخلاف جرم العين فإنه يرى‏.‏ ولعل هذا هو السر في الإظهار في مقام الإضمار، وجوز أن يقال المراد أن كل عين لا ترى نفسها‏:‏

‏{‏وَهُوَ اللطيف الخبير‏}‏ فيدرك سبحانه ما لا يدركه الأبصار، فالجملة سيقت لوصفه تعالى بما يتضمن تعليل قوله سبحانه‏:‏ «وهو» الخ‏.‏ وجوز غير واحد أن يكون ما ذكر من باب اللف فإن اللطيف يناسب كونه غير مدرك بالفتح والخبير يناسب كونه تعالى مدركاً بالكسر، واللطيف مستعار من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة من الشيء الخفي‏.‏ ويفهم من ظاهر كلام البهائي كما قال الشهاب أنه لا استعارة في ذلك حيث قال في «شرح أسماء الله تعالى الحسنى»‏:‏ اللطيف الذي يعامل عباده باللطف وألطافه جل شأنه لا تتناهى ظواهرها وبواطنها في الأولى والأخرى ‏{‏وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏ وقيل‏:‏ اللطيف العليم بالغوامض والدقائق من المعاني والحقائق ولذا يقال للحاذق في صنعته لطيف‏.‏ ويحتمل أن يكون من اللطافة المقابلة للكثافة وهو وإن كان في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم لكن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم لأن الجسمية يلزمها الكثافة وإنما لطافتها بالإضافة، فاللطافة المطلقة لا يبعد أن يوصف بها النور المطلق الذي يجل عن إدراك البصائر فضلاً عن الأبصار ويعز عن شعور الأسرار فضلاً عن الأفكار ويتعالى عن مشابهة الصور والأمثال وينزه عن حلول الألوان والأشكال، فإن كمال اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه ووصف الغير بها لا يكون على الإطلاق بل بالقياس إلى ما هو دونه في اللطافة ويوصف إليه بالكثافة انتهى‏.‏ والمرجح أن إطلاق اللطيف بمعنى مقابل الكثيف على ما ينساق إلى الذهن على الله تعالى ليس بحقيقة أصلا كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ‏}‏ استئناف وارد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فقل مقدرة كما قاله بعض المحققين‏.‏ والبصائر جمع بصيرة وهي للقلب كالبصر للعين، والمراد بها الآيات الواردة ههنا أو جميع الآيات ويدخل ما ذكر دخولاً أولياً، و‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية مجازاً وهي متعلقة بجاء أو بمحذوف وقع صفة لبصائر، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار كمال اللطف بهم أي قد جاءكم من جهة مالككم ومبلغكم إلى كمالكم اللائق بكم من الوحي الناطق بالحق والصواب ما هو كالبصائر للقلوب أو قد جاءكم بصائر كائنة من ربكم ‏{‏فَمَنْ أَبْصَرَ‏}‏ أي الحق بتلك البصائر وآمن به ‏{‏فَلِنَفْسِهِ‏}‏ أي فلنفسه أبصر كما نقل عن الكلبي وتبعه الزمخشري أو فإبصاره لنفسه كما اختاره أبو حيان لما ستعلم قريباً إن شاء الله تعالى‏.‏ والمراد على القولين أن نفع ذلك يعود إليه‏.‏

‏{‏وَمَنْ عَمِىَ‏}‏ أي ومن لم يبصر الحق بعد ما ظهر له بتلك البصائر ظهوراً بيناً وضل عنه، وإنما عبر عنه بالعمى تنفيراً عنه ‏{‏فَعَلَيْهَا‏}‏ عمى أو فعماه عليها أي وبال ذلك عليها، وهما قولان لمن تقدم‏.‏ وذكر أبو حيان «أن تقدير المصدر أولى لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن المحذوف يكون مفرداً لا جملة ويكون الجار والمجرور عمدة لا فضلة‏.‏ والثاني‏:‏ أنه لو كان المقدر فعلا لم تدخل الفاء سواء كانت «من» شرطية أو موصولة لامتناعها في الماضي»‏.‏ وتعقب بأن تقدير الفعل يترجح لتقدم فعل ملفوظ به وكان أقوى في الدلالة، وأيضاً أن في تقديره المعمول المؤذن بالاختصاص، وأيضاً ما ذكر في الوجه الثاني غير لازم لأنه لم يقدر الفعل مولياً لفاء الجواب بل قدر معمول الفعل الماضي مقدماً ولا بد فيه من الفاء فلو قلت‏:‏ من أكرم زيداً فلنفسه أكرمه لم يكن بد من الفاء‏.‏ نعم لم يعهد تعدية عمي بعلى وهو لازم التقدير السابق في الجملة الثانية وكأنه لذلك عدل عنه بعضهم بعد أن وافق في الأول إلى قوله‏:‏ فعليها وباله ‏{‏وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ‏}‏ وإنما أنا منذر والله تعالى هو الذي يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك‏}‏ أي مثل ذلك التصريف البديع ‏{‏نُصَرّفُ الايات‏}‏ الدالة على المعاني الرائقة الكاشفة عن الحقائق الفائقة لا تصريفاً أدنى منه‏.‏

وقيل‏:‏ المراد كما صرفنا الآيات قبل نصرف هذه الآيات، وقد تقدم لك ما هو الحري بالقبول‏.‏ وأصل التصريف كما قال علي بن عيسى إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة من الصرف وهو نقل الشيء من حال إلى حال‏.‏ وقال الراغب‏:‏ «التصريف كالصرف إلا في التكثير وأكثر ما يقال في صرف الشيء من حال إلى حال وأمر إلى أمر2‏.‏

‏{‏وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ‏}‏ علة لفعل قد حذف تعويلاً على دلالة السياق عليه أي وليقولوا درست نفعل ما نفعل من التصريف المذكور‏.‏ وبعضهم قدر الفعل ماضياً والأمر في ذلك سهل، واللام لام العاقبة‏.‏ وجوز أن تكون للتعليل على الحقيقة لأن نزول الآيات لإضلال الأشقاء وهداية السعداء قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏‏.‏ والواو اعتراضية، وقيل‏:‏ هي عاطفة على علة محذوفة‏.‏ واللام متعلقة بنصرف أي مثل ذلك التصريف نصرف الآيات لنلزمهم الحجة وليقولوا الخ‏.‏ وهو أولى من تقدير لينكروا وليقولوا الخ‏.‏ وقيل‏:‏ اللام لام الأمر، وينصره القراءة بسكون اللام كأنه قيل‏:‏ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا هم ما يقولون فإنهم لا احتفال بهم ولا اعتداد بقولهم، وهو أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث‏.‏ ورده في «الدر المصون» بأن ما بعده يأباه فإن اللام فيه نص في أنها لام كي، وتسكين اللام في القراءة الشاذة لا دليل فيه لاحتمال أن يكون للتخفيف‏.‏

ومعنى ‏{‏دَرَسْتَ‏}‏ قرأت وتعلمت، وأصله على ما قال الأصمعي من قولهم‏:‏ درس الطعام يدرسه دراساً إذا داسه كأن التالي يدوس الكلام فيخف على لسانه‏.‏ وقال أبو الهيثم‏:‏ يقال درست الكتاب أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه من قولهم‏:‏ درست الثوب أدرسه درساً فهو مدروس ودريس أي أخلقته، ومنه قيل للثوب الخلق‏:‏ دريس لأنه قد لان، والدرسة الرياضة ومنه درست السورة حتى حفظتها‏.‏ وهذا كما قال الواحدي قريب مما قاله الأصمعي أو هو نفسه لأن المعنى يعود فيه إلى التذليل والتليين‏.‏ وقال الراغب‏:‏ يقال دَرَسَ الدارُ أي بقي ‏(‏أثره‏)‏ وبقاء الأثر يقتضي انمحاءه في نفسه فلذلك فسر الدروس بالإنمحاء، وكذا درس الكتاب ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ، ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن إدامة القراءة بالدرس» وهو بعيد عما تقدم كما لا يخفى‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏دارست‏}‏ بالألف وفتح التاء وهي قراءة ابن عباس ومجاهد‏:‏ أي دارست يا محمد غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية وذكرته، وأرادوا بذلك نحو ما أرادوه بقولهم‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ‏}‏

‏[‏النحل‏:‏ 103‏]‏‏.‏ قال الإمام‏:‏ «ويقوي هذه القراءة قوله تعالى حكاية عنهم‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه وَأَعَانَهُ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 4‏]‏ وقرأ ابن عامر ويعقوب وسهل ‏{‏دَرَسْتَ‏}‏ بفتح السين وسكون التاء، ورويت عن عبد الله بن الزبير وأبي وابن مسعود والحسن رضي الله تعالى عنهم‏.‏ والمعنى قدمت هذه الآيات وعفت وهو كقولهم ‏{‏أساطير الاولين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقرىء ‏{‏دَرَسْتَ‏}‏ بضم الراء مبالغة في درست لأن فعل المضموم للطبائع والغرائز أي اشتد دروسها، و‏{‏دَرَسْتَ‏}‏ على البناء للمفعول بمعنى قرئت أو عفيت وقد صح مجيء عفا متعدياً كمجيئه لازماً؛ و‏{‏دارست‏}‏ بتاء التأنيث أيضاً‏.‏ والضمير إما لليهود لاشتهارهم بالدارسة أي دارست اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم وإما للآيات وهو في الحقيقة لأهلها أي دارست أهل الآيات وحملتها محمداً عليه الصلاة والسلام وهم أهل الكتاب، و‏{‏دورست‏}‏ على مجهول فاعل‏.‏ و‏{‏وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ‏}‏ بالبناء للمفعول والإسناد إلى تاء الخطاب مع التشديد، ونسبت إلى ابن زيد‏.‏ و‏{‏ادارست‏}‏ مشدداً معلوماً ونسبت إلى ابن عباس، وفي رواية أخرى عن أبي ‏{‏درس‏}‏ على إسناده إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم أو الكتاب إن كان بمعنى انمحى ونحوه و‏{‏درسن‏}‏ بنون الإناث مخففاً ومشدداً و‏{‏دارسات‏}‏ بمعنى قديمات أو ذات درس أو دروس ك ‏{‏فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي دراسات‏.‏

‏{‏وَلِنُبَيّنَهُ‏}‏ عطف على ‏{‏لّيَقُولواْ‏}‏ واللام فيه للتعليل المفسر ببيان ما يدل على المصلحة المترتبة على الفعل عند الكثير من أهل السنة‏.‏ ولا ريب في أن التبيين مصلحة مرتبة على التصريف‏.‏ والخلاف في أن أفعال الله تعالى هل تعلل بالأغراض مشهور وقد أشرنا إليه فيما تقدم‏.‏ والضمير للآيات باعتبار التأويل بالكتاب أو للقرآن وإن لم يذكر لكونه معلوماً أو لمصدر ‏{‏نُصَرّفُ‏}‏ كما قيل أو نبين أي ولنفعلن التبيين ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ فإنهم المنتفعون به وهو الوجه في تخصيصهم بالذكر‏.‏ وهم على ما روي عن ابن عباس أولياؤه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد ووصفهم بالعلم للإيذان بغاية جهل غيرهم وخلوهم عن العلم بالمرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏اتبع مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ‏}‏ أي دم على ما أنت عليه من التدين بما أوحي إليك من الشرائع والأحكام التي عمدتها التوحيد‏.‏ و‏(‏ في‏)‏ التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من إظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى‏.‏ والجار والمجرور يجوز أن يكون متعلقاً بأوحي وأن يكون حالاً من ضمير المفعول المرفوع فيه‏.‏ وأن يكون حالاً من مرجعه‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ يحتمل أن يكون اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه أكد به إيجاب الاتباع لا سيما في أمر التوحيد‏.‏ وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون حالاً مؤكدة ‏{‏مِن رَبّكَ‏}‏ أي منفرداً في الألوهية ‏{‏وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين‏}‏ أي لا تعتد بأقاويلهم الباطلة التي من جملتها ما حكى عنهم آنفاً ولا تبال بها ولا تلتفت إلى أذاهم وعلى هذا فلا نسخ في الآية‏.‏ وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها منسوخة بآية السيف فيكون الإعراض محمولاً على ما يعم الكف عنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ شَاء الله‏}‏ عدم إشراكهم ‏{‏مَا أَشْرَكُواْ‏}‏ وهذا دليل لأهل السنة على أنه تعالى لا يريد إيمان الكافر لكن لا بمعنى أنه تعالى يمنعه عنه مع توجهه إليه بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه لسوء اختياره الناشيء من سوء استعداده‏.‏ والجملة اعتراض مؤكد للإعراض‏.‏ وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جعلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً‏}‏ أي رقيباً مهيمناً من قبلنا تحفظ عليهم أعمالهم‏.‏ وكذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ‏}‏ من جهتهم تقوم بأمرهم وتدبر مصالحهم وقيل‏:‏ المراد ما جعلناك عليهم حفيظاً تصونهم عما يضرهم وما أنت عليهم بوكيل تجلب لهم ما ينفعهم‏.‏ و‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ في الموضعين متعلق بما بعده قدم عليه للاهتمام به أو لرعاية الفواصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ أي لا تشتموهم ولا تذكروهم بالقبيح، والمراد من الموصول إما المشركون على معنى لا تسبوهم من حيث عبادتهم لآلهتهم كأن تقولوا تباً لكم ولما تعبدونه مثلاً أو آلهتهم فالآية صريحة في النهي عن سبها‏.‏ والعائد حينئذ مقدر أي الذين تدعونهم‏.‏ والتعبير عنها بالذين مبني على زعمهم أنها من أهل العلم أو على تغليب العقلاء منها كالملائكة والمسيح وعزير عليهم الصلاة والسلام‏.‏ وقيل‏:‏ إن سب الآلهة سب لهم كما يقال ضرب الدابة صفع لراكبها‏.‏

‏{‏فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً‏}‏ تجاوزاً عن الحق إلى الباطل، ونصبه على أنه حال مؤكدة‏.‏ وجوز أبو البقاء أن يكون على أنه مفعول له، وأن يكون على المصدرية من غير لفظ الفعل، و‏{‏يسبوا‏}‏ منصوب على جواب النهي، وقيل‏:‏ مجزوم على العطف كقولهم‏:‏ لا تمددها فتشققها‏.‏ ومعنى سبهم لله عز وجل إفضاء كلامهم إليه كشتمهم له صلى الله عليه وسلم ولمن يأمره، وقد فسر ‏{‏يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ بذلك أي فيسبوا الله تعالى بغير علم أنهم يسبونه وإلا فالقوم كانوا يقرون بالله تعالى وعظمته وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء لهم عنده سبحانه فكيف يسبونه‏؟‏ ويحتمل أن يراد سبهم له عز اسمه صريحاً ولا إشكال بناء على أن الغضب والغيظ قد يحملهم على ذلك ألا ترى أن المسلم قد تحمله شدة غيظه على التكلم بالكفر‏.‏ ومما شاهدناه أن بعض جهلة العوام أكثرَ الرافضة سب الشيخين رضي الله تعالى عنهما عنده فغاظه ذلك جداً فسب علياً كرم الله تعالى وجهه فسئل عن ذلك فقال‏:‏ ما أردت إلا إغاظتهم ولم أر شيئاً يغيظهم مثل ذلك فاستتيب عن هذا الجهل العظيم، وقال الراغب‏:‏ «إن سبهم لله تعالى ليس ‏(‏على‏)‏ أنهم يسبونه جل شأنه صريحاً ولكن يخوضون في ذكره تعالى ‏(‏فيذكرونه بما لا يليق به‏)‏ ‏(‏1‏)‏ ويتمادون في ذلك بالمجادلة ويزدادون في ذكره سبحانه بما ينزه تقدس اسمه عنه، وقد يجعل الإصرار على الكفر والعناد سباً وهو سب فعلي، قال الشاعر‏:‏ وما كان ذنب بني مالك *** بأن سب منهم غلام فسب بأبيض ذي شطب قاطع

يقد العظام ويبري القصب *** ونبه به على ما قال الآخر‏:‏ ونشتم بالأفعال لا بالتكلم *** وقيل‏:‏ المراد بسب الله تعالى سب الرسول صلى الله عليه وسلم ونظير ذلك من وجه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ الآية‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏عَدُوّا‏}‏ يقال‏:‏ عدا فلان يعدو عدواً وعدواً ‏(‏وعداء‏)‏ وعدواناً‏.‏ أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال‏:‏ لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش‏:‏ انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب‏:‏ كان يمنعه فلما مات قتلوه فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحرث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن البحتري إلى أبي طالب فقالوا أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمداً قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعنه وإلهه فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبو طالب‏:‏ هؤلاء قومك وبنو عمك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ماذا تريدون‏؟‏ قالوا نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك فقال أبو طالب‏:‏ قد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أرأيتكم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطى كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم‏.‏

قال أبو جهل نعم لنعطينكها وأبيك وعشر أمثالها فما هي‏؟‏ قال قولوا لا إله إلا الله فأبوا واشمأزوا فقال أبو طالب قل غيرها يا ابن أخي فإن قومك قد فزعوا منها فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها فقالوا لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال‏:‏ قالوا يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله تعالى أن يسبوا أوثانهم، وفي رواية عنه أنهم قالوا ذلك عند نزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ نزلت ‏{‏وَلاَ تَسُبُّواْ‏}‏ الخ، واستشكل ذلك بأن وصل آلهتهم بأنها حصب جهنم وبأنها لا تضر ولا تنفع سب لها فكيف نهى عنه بما هنا‏.‏ وأجيب بأنهم إذا قصدوا بالتلاوة سبهم وغيظهم يستقيم النهي عنها ولا بدع في ذلك كما ينهى عن التلاوة في المواضع المكروهة‏.‏ وقال في «الكشف» المعنى على هذه الرواية لا يقع السب منكم بناء على ما ورد في الآية فيصير سباً لسبهم‏.‏ وقيل‏:‏ ما في الآية لا يعد سباً لأنه ذكر المساوي لمجرد التحقير والإهانة وما فيها إنما ورد للاستدلال على عدم صلوحها للألوهية والمعبودية وفيه تأمل، وقريب منه ما قيل‏:‏ إن النهي في الحقيقة إنما هو عن العدول عن الدعوة إلى السب كأنه قيل‏:‏ لا تخرجوا من دعوة الكفار ومحاجتهم إلى أن تسبوا ما يعبدونه من دون الله تعالى فإن ذلك ليس من الحجاج في شيء ويجر إلى سب الله عز وجل‏.‏

واستدل بالآية على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر وهذا بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية لا يمكن دفعها وكثيراً ما يشتبهان، ولذا لم يحضر ابن سيرين جنازة اجتمع فيها الرجال والنساء وخالفه الحسن قائلاً‏:‏ لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا للفرق بينهما‏.‏

ونقل الشهاب عن المقدسي في الرمز أن الصحيح عند فقهائنا أنه لا يترك ما يطلب لمقارنة بدعة كترك إجابة دعوة لما فيها من الملاهي وصلاة جنازة لنائحة فإن قدر على المنع منع وإلا صبر، وهذا إذا لم يقتد به وإلا لا يقعد لأن فيه شين الدين‏.‏ وما روي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه ابتلي به كان قبل صيرورته إماماً يقتضي به‏.‏ ونقل عن أبي منصور أنه قال‏:‏ كيف نهانا الله تعالى عن سب من يستحق السب لئلا يسب من لا يستحقه وقد أمرنا بقتالهم وإذا قاتلناهم قتلونا وقتل المؤمن بغير حق منكر، وكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتليغ والتلاوة عليهم وإن كانوا يكذبونه، وأنه أجاب بأن سب الآلهة مباح غير مفروض وقتالهم فرض، وكذا التبليغ وما كان مباحاً ينهى عما يتولد منه ويحدث وما كان فرضاً لا ينهى عما يتولد منه؛ وعلى هذا يقع الفرق لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فيمن قطع يد قاطع قصاصاً فمات منه فإنه يضمن الدية لأن استيفاء حقه مباح فأخذ بالمتولد منه، والإمام إذا قطع يد السارق فمات لا يضمن لأنه فرض عليه فلم يؤخذ بالمتولد منه اه‏.‏ ومن هنا لا تحمل الطاعة فيما تقدم على إطلاقها‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك التزيين القوي ‏{‏زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ‏}‏ من الأمم ‏{‏عَمَلَهُمْ‏}‏ من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقاً أو تخذيلاً، وجوز أن يراد بكل أمة أمم الكفرة إذ الكلام فيهم وبعملهم شرهم وفسادهم، والمشبه به تزيين سب الله تعالى شأنه لهم، واستدل بالآية على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر كما زين للمؤمن الإيمان‏.‏ وأنكر ذلك المعتزلة وزين لهم الشيطان أعمالهم فتأولوا الآية بما لا يخفى ضعفه ‏{‏ثُمَّ إلى رَبّهِمْ‏}‏ مالك أمرهم ‏{‏مَرْجِعُهُمْ‏}‏ أي رجوعهم ومصيرهم بالبعث بعد الموت ‏{‏فَيُنَبّئُهُمْ‏}‏ من غير تأخير ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ في الدنيا على الاستمرار من خير أو شر، وذلك بالثواب على الأول والعقاب على الثاني، فالجملة للوعد والوعيد‏.‏ وفسر بعضهم ما بالسيئات المزينة لهم وقال‏:‏ إن هذا وعيد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده‏:‏ سأخبرك بما فعلت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَقْسَمُواْ‏}‏ أي المشركون ‏{‏بالله جَهْدَ أيمانهم‏}‏ أي جاهدين فيها‏.‏ فجهد مصدر في موضع الحال‏.‏ وجوز أن يكون منصوباً بنزع الخافض أي أقسموا بجهد أيمانهم أي أوكدها‏.‏ وهو بفتح الجيم وضمها في الأصل بمعنى الطاقة والمشقة، وقيل‏:‏ بالفتح المشقة وبالضم الوسع، وقيل‏:‏ ما يجهد الإنسان، والمعنى هنا على ما قال الراغب «أنهم حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم2‏.‏

‏{‏لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَةٌ‏}‏ من مقترحاتهم أو من جنس الآيات‏.‏ ورجحه بعض المحققين بأنه الأنسب بحالهم في المكابرة والعناد وترامي أمرهم في العتو والفساد حيث كانوا لا يعدون ما يشاهدونه من المعجزات الباهرة من جنس الآيات فاقترحوا غيرها ‏{‏لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا‏}‏ وما كان مرمى غرضهم إلا التحكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب المعجزة وعدم الاعتداد بما شاهدوا منه عليه الصلاة والسلام من البينات‏.‏ والباء صلة الإيمان، والمراد من الإيمان بها التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وجعلها للسببية على معنى ليؤمنن بك بسببها خلاف الظاهر‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا الايات‏}‏ أي كلها فيدخل ما اقترحوه فيها دخولاً أولياً ‏{‏عَندَ الله‏}‏ أي أمرها في حكمه وقضائه خاصة يتصرف فيها حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة لا تتعلق بها قدرة أحد ولا مشيئته استقلالاً ولا اشتراكاً بوجه من الوجوه حتى يمكنني أن أتصدى لإنزالها بالاستدعاء؛ وهذا كما ترى سد لباب الاقتراح‏.‏ وقيل‏:‏ إن المعنى إنما الآيات عند الله لا عندي فكيف أجيبكم إليها أو ءاتيكم بها أو المعنى هو القادر عليها لا أنا حتىءاتيكم بها‏.‏ واعترض ذلك شيخ الإسلام بعد أن اختار ما قدمناه بأنه لا مناسبة له بالمقام كيف لا وليس مقترحهم مجيئها بغير قدرة الله تعالى فتدبر‏.‏ روي أن قريشاً اقترحوا بعض ءايات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني فقالوا‏:‏ نعم وأقسموا لئن فعلته لنؤمنن جميعاً فسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها طمعاً في إيمانهم فَهَمَّ عليه الصلاة والسلام بالدعاء فنزلت‏.‏ وأخرج ابن جرير عن محمد القرظي قال‏:‏ كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فقالوا‏:‏ يا محمد تخبرنا أن موسى عليه السلام كان معه عصاً يضرب بها الحجر وأن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى وأن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي شيء تحبون أن آتيكم به‏؟‏ قالوا‏:‏ تحول لنا الصفا ذهباً قال‏:‏ فإن فعلت تصدقوني‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين فقام رسول الله عليه الصلاة والسلام يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال إن شئت أصبح الصفا ذهباً فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم فقال صلى الله عليه وسلم أتركهم حتى يتوب تائبهم فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى

‏{‏يَجْهَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏‏.‏

‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ كلام مستأنف غير داخل تحت الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان الحكمة فيما أشعر به الجواب السابق من عدم مجيء الآيات خوطب به المؤمنون كما قال الفراء وغيرهم إما خاصة بطريق التلوين لما كانوا راغبين في نزولها طمعاً في إسلامهم، وإما معه عليه الصلاة والسلام بطريق التعميم لما روي مما يدل على رغبته عليه الصلاة والسلام في ذلك أيضاً كالهم بالدعاء، وفيه بيان لأن أيمانهم فاجرة وإيمانهم في زوايا العدم وأن أجيبوا إلى ما سألوه‏.‏ وجوز بعضهم دخوله تحت الأمر ولا وجه له إلا أن يقدر قل للكافرين‏:‏ إنما الآيات عند الله وللمؤمنين وما يشعركم الخ وهو تكلف لا داعي إليه‏.‏ وعن مجاهد أن الخطاب للمشركين وهو داخل تحت الأمر وفيه التفات و‏{‏أَنَّهَا‏}‏ الخ عنده إخبار ابتدائي كما يدل عليه ما رواه عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ‏.‏ و‏(‏ ما‏)‏ استفهامية إنكارية على ما قاله غير واحد لا نافية لما يلزم عليه من بقاء الفعل بلا فاعل، وجعله ضمير الله تعالى تكلف أو غير مستقيم إلا على بعد، واستشكل بأن المشركين لما اقترحوا ءاية وكان المؤمنون يتمنون نزولها طمعاً في إسلامهم كان في ظنهم إيمانهم على تقدير النزول، فإذا أريد الإنكار عليهم فالمناسب إنكار الإيمان لا عدمه كأنهم قالوا‏:‏ ربنا أنزل للمشركين ءاية فإنه لو نزلت يؤمنون، وحينئذ يقال في الإنكار‏:‏ ما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون‏.‏ ويتضح هذا بمثال، وذلك أنه إذا قال لك القائل‏:‏ أكرم فلاناً فإنه يكافئك وكنت تعلم منه عدم المكافاة فإنك إذا أنكرت على المشير بإكرامه قلت‏:‏ وما يدريك أني إذا أكرمته يكافئني فأنكرت عليه إثبات المكافاة وأنت تعلم نفيها فإن قال لك‏:‏ لا تكرمه فإنه لا يكافئك وأنت تعلم منه المكافاة وأردت الإنكار على المشير بحرمانه قلت‏:‏ وما يدريك أنه لا يكافئني فأنكرت عليه عدم المكافاة وأنت تعلم ثبوتها‏.‏

والآية كما لا يخفى من قبيل المثال الأول فكان الظاهر حيث ظنوا أيمانهم ورغبوا فيه وعلم الله تعالى عدم وقوعه منهم ولو نزل عليهم الملائكة وكلمهم الموتى أن يقال‏:‏ وما يشعركم أنهم إذا جاءت يؤمنون‏.‏ وأجاب عنه بعضهم بأن هذا الاستفهام في معنى النفي وهو إخبار عنهم بعدم العلم لا إنكار عليهم، والمعنى أن الآيات عند الله تعالى ينزلها بحسب المصلحة، وقد علم سبحانه أنهم لا يؤمنون ولا تنجع فيهم الآيات وأنتم لا تدرون ما في الواقع وفي علم الله تعالى وهو أنهم لا يؤمنون فلذلك تتوقعون إيمانهم، والحاصل أن الاستفهام للإنكار وله معنيان لم ولا فإن كان بمعنى لم يقال ما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون بدون لا على معنى لم قلتم أنها إذا جاءت يؤمنون وتوقعتم ذلك‏؟‏ وإن كان بمعنى لا يقال ما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بإثبات لا على معنى لا تعلمون أنهم لا يؤمنون فلذا توقعتم إيمانهم ورغبتم في نزول آية لهم؛ وهذا الثاني هو المراد ويرجع إلى إقامة عذر المؤمنين في طلبهم ذلك ورغبتهم فيه‏.‏

وأجاب آخرون بأن ‏{‏لا‏}‏ زائدة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ و‏{‏حَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 95‏]‏ فإنه أريد تسجد ويرجعون بدون لا‏.‏ وعن الخليل أن ‏(‏أن‏)‏ بمعنى لعل كما في قولهم‏:‏ ائت السوق أنك تشتري لحماً؛ وقول امرىء القيس‏:‏ عرجوا على الطلل المحيل لأننا *** نبكي الديار كما بكى ابن خذام

وقول الآخر‏:‏ هل أنتم عائجون بنا لأنا *** نرى العرصات أو أثر الخيام

ويؤيده أن يشعركم ويدريكم بمعنى‏.‏ وكثيراً ما تأتي لعل بعد فعل الدراية نحو ‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 3‏]‏ وأن في مصحف أبي رضي الله تعالى عنه ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ‏}‏ والكلام على هذا قد تم قبل ‏{‏يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا‏}‏ والمفعول الثاني ليشعركم محذوف والجملة استئناف لتعليل الإنكار وتقديره أي شيء يعلمكم حالهم وما سيكون عند مجيء ذلك لعلها إذا جاءت لا يؤمنون فما لكم تتمنون مجيئها فإن تمنيه إنما يليق بما إذا كان إيمانهم بها متحقق الوقوع عند مجيئها لا مرجو العدم‏.‏ ومن الناس من زعم أن ‏{‏أَنَّهَا‏}‏ الخ جواب قسم محذوف بناء على أن أن في جواب القسم يجوز فتحها ولا يخفي بعده‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب ‏{‏أَنَّهَا‏}‏ بالكسر على الإستئناف حسبما سيق مع زيادة تحقيق لعدم إيمانهم‏.‏ قال في «الكشف»‏:‏ وهو على جواب سؤال مقدر على ما ذكره الشيخ ابن الحاجب كأنه قيل لم وبخوا‏؟‏ فقيل لأنها إذا جاءت لا يؤمنون‏.‏ ولك أن تبنيه على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ‏}‏ أي بما يكون منهم فإنه إبراز في معرض المحتمل كأنه قد سئل عنه سؤال شاك ثم علل بأنها إذا جاءت جزماً بالطرف المحالف وبياناً لكون الاستفهام غير جار على الحقيقة‏.‏ وفيه إنكار لتصديق المؤمنين على وجه يتضمن إنكار صدق المشركين في المقسم عليه‏.‏ وهذا نوع من السحر البياني لطيف المسلك انتهى‏.‏

وقرأ ابن عامر وحمزة ‏{‏لاَ تُؤْمِنُونَ‏}‏ بالفوقانية والخطاب حينئذ في الآية للمشركين بلا خلاف‏.‏ وقرىء ‏{‏وَمَا ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ فمرجع الإنكار إقدام المشركين على الحلف المذكور مع جهلهم بحال قلوبهم عند مجيء ذلك وبكونها حينئذ كما هي الآن‏.‏ وقرىء ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ‏}‏ بسكون خالص واختلاس‏.‏ وضمير ‏{‏بِهَا‏}‏ على سائر القراءات راجع للآية لا للآيات لأن عدم إيمانهم عند مجيء ما اقترحوه أبلغ في الذم كما أن استعمال إذا مع الماضي دون أن مع المستقبل لزيادة التشنيع عليهم‏.‏ وزعم بعضهم أن عدوه للآيات أولى لقربه مع ما فيه من زيادة المبالغة في بعدهم عن الإيمان وبلوغهم في العناد غاية الإمكان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم‏}‏ عطف على ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏ داخل معه في حكم ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏ مقيد بما قيد به أي وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا ‏(‏يدركونه‏)‏ وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه‏.‏ وهذا على ما قال الإمام تقرير لما في الآية الأولى من أنهم لا يؤمنون‏.‏ وذكر شيخ الإسلام أن هذا التقليب ليس مع توجه الأفئدة والأبصار إلى الحق واستعدادها له بل لكما نبوها عنه وإعراضها بالكلية ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعاراً بأصالتهم في الكفر وحسماً لتوهم أن عدم إيمانهم ناشيء من تقليبه تعالى مشاعرهم بطريق الإجبار‏.‏ وتحقيقه على ما ذكره شيخ مشايخنا الكوراني أنه سبحانه حيث علم في الأزل سوء استعدادهم المخبوء في ماهياتهم أفاض عليهم ما يقتضيه وفعل بهم ما سألوه بلسان الاستعداد بعد أن رغبهم ورهبهم وأقام الحجة وأوضح المحجة ولله تعالى الحجة البالغة وما ظلمهم الله سبحانه ولكن كانوا هم الظالمين‏.‏

‏{‏كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ‏}‏ أي بما جاء من الآيات بالله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ بالقرآن‏.‏ وقيل‏:‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر لذلك ذكر‏.‏ وقيل‏:‏ بالتقليب وهو كما ترى‏.‏ ‏{‏أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ أي عند ورود الآيات السابقة‏.‏ والكاف في موضع النعت لمصدر ‏(‏محذوف‏)‏ منصوب بـِ ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏‏.‏ وما مصدرية أي لا يؤمنون بل يكفرون كفراً كائناً ككفرهم أول مرة‏.‏ وتوسيط تقليب الأفئدة والأبصار لأنه من متممات عدم إيمانهم‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ أن الكاف نعت لمصدر محذوف أي تقليباً ككفرهم أي عقوبة مساوية لمعصيتهم أول مرة ولا يخفى ما فيه‏.‏ والآية ظاهرة في أن الإيمان والكفر بقضاء الله تعالى وقدره‏.‏

وأجاب الكعبي عنها بأن المراد من ‏{‏يُؤْمِنُونَ وَنُقَلّبُ‏}‏ الخ أنا لا نفعل بهم ما نفعله بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم‏.‏ والقاضي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الآيات التي ظهرت فلا نجدهم يؤمنون بها آخراً كما لم يؤمنوا بها أولاً‏.‏ والجبائي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا‏.‏ والكل كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وهكذا غالب كلام المعتزلة‏.‏

‏{‏وَنَذَرُهُمْ‏}‏ أي ندعهم ‏{‏فِي طغيانهم‏}‏ أي تجاوزهم الحد في العصيان ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏ أي يترددون متحيرين وهذا عطف على ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏ قيد بما قيد به أيضاً مبين لما هو المراد بتقليب الأفئدة والأبصار معرب عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره‏.‏ والجار متعلق بما عنده‏.‏ وجملة ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏ في موضع الحال من الضمير المنصوب في ‏{‏نذرهم‏}‏‏.‏ وقرىء ‏(‏يقلب ويذر‏)‏ على الغيبة والضمير لله عز وجل‏.‏

وقرأ الأعمش ‏{‏وتقلب‏}‏ على البناء للمفعول وإسناده إلى أفئدتهم‏.‏

هذا ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 87‏]‏ قال الجنيد قدس سره‏:‏ أي أخلصانهم وآويناهم لحضرتنا ودللناهم للاكتفاء بنا عما سوانا ‏{‏ذلك هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ وهم أهل السابقة الذين سألوه سبحانه الهداية بلسان الاستعداد الأزلي ‏{‏وَلَوْ أَشْرَكُواْ‏}‏ بالميل إلى السوى وهو شرك الكاملين كما أشار إليه سيدي عمر بن الفارض قدس سره بقوله‏:‏

ولو خطرت لي في سواك إرادة *** على خاطري سهواً حكمت بردتي

‏{‏لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 88‏]‏ لعظم ما أتوا به ‏{‏إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏ ‏{‏فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء‏}‏ وهو المحجوبون ‏{‏فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 89‏]‏ وهم العارفون بالله عز وجل الذين هم خزائن حقائق الإيمان‏.‏ وفي الخبر «لا يزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله سبحانه وهم على ذلك» ‏{‏أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ‏}‏ وهو آداب الشريعة والطريقة والحقيقة ‏{‏اقتده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏ أمر له صلى الله عليه وسلم أن يتصف بجميع ما تفرق فيهم من ذلك الهدى وكان ذلك على ما قيل في منازل الوسائط، ولما كحل عيون أسراره بكحل الربوبية جعله مستقلاً بذاته مستقيماً بحاله وأخرجه من حد الإرادة إلى حد المعرفة والاستقامة ولذا أمره عليه الصلاة والسلام بإسقاط الوسائط كما يشير إليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 203‏]‏ مع قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي»‏.‏ وقال بعض العارفين‏:‏ ليس في هذا توسيط الوسائط لأنه أمر بالاقتداء بهداهم لا بهم‏.‏ ونظيره ‏{‏أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 123‏]‏ حيث لم يقل سبحانه أن أتبع إبراهيم ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ أي ما عرفوه حق معرفته ‏{‏إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَىْء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ أي لم يظهر من علمه وكلامه سبحانه على أحد شيئاً وذلك لزعمهم البعد من عباده جل شأنه وعدم إمكان ظهور بعض صفاته على مظهر بشري ولو عرفوا لما أنكروا ولا اعتقدوا أنه لا مظهر لكمال علمه وحكمته إلا الإنسان الكامل بل لو ارتفع الحول عن العين لما رأوا الواحد إثنين ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ‏}‏ لما فيه من أسرار القرب والوصال والتشويق إلى الحسن والجمال بل منه تجلى الحق لخلقه لو يعلمون‏.‏ ‏{‏مُّصَدّقُ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ من التوراة والإنجيل لجمعه الظاهر والباطن على أتم وجه ‏{‏وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى‏}‏ وهي القلب ‏{‏وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 92‏]‏ من القوى ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً‏}‏ كمن ادعى الكمال والوصول إلى التوحيد والخلاص عن كثرة صفات النفس وزعم أنه بالله عز وجل وأنه من أهل الإرشاد وهو ليس كذلك ‏{‏أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء‏}‏ كمن سمى مفتريات وهمه وخياله ومخترعات عقله وفكره وحيا فيضاً من الروح القدسي فتنبأ لذلك ‏{‏وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ الله‏}‏ كمن تفرعن وادعى الألوهية ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون‏}‏ وهم هؤلاء الأصناف الثلاثة ‏{‏فِى غَمَرَاتِ الموت‏}‏ الطبيعي ‏{‏والملئكة بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ بقبض أرواحهم كالمتقاضي الملظ يقولون ‏{‏أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ‏}‏ تغليظاً وتعنيفاً عليهم

‏{‏اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 93‏]‏ والصغار لوجود صفات نفوسكم وهيآتها المظلمة وتكاثف حجاب أنانيتكم وتفرعنكم ‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى‏}‏ أي منفردين مجردين عن كل شيء بالاستغراق في عين جميع الذات ‏{‏كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏ عند أخذ الميثاق‏.‏

‏{‏إِنَّ الله فَالِقُ الحب‏}‏ أي حبة القلب بنور الروح عن العلوم والمعارف ‏{‏والنوى‏}‏ أي نوى النفس بنور القلب عن الأخلاق والمكارم أو فالق حبة المحبة الأزلية في قلوب المحبين والصديقين ونوى شجر أنوار الأزل في فؤاد العارفين فتثمر بالأعمال الزكية والمقامات الشريفة والحالات الرفيعة ‏{‏يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت‏}‏ أي العالم به من الجاهل ‏{‏مُخْرَجَ الميت مِنَ الحى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 95‏]‏ أي الجاهل به من العالم أو يخرج حي القلب عن ميت النفس تارة باستيلاء نور الروح عليها ومخرج ميت النفس عن حي القلب أخرى بإقباله عليها واستيلاء الهوى وصفات النفس عليه ‏{‏فَالِقُ الإصباح‏}‏ أي مظهر أنوار صفاته على صفحات آفاق مخلوقاته أو شاق ظلمة الإصباح بنور الإصباح وذلك لأن بحر العدم كان مملوءاً من الظلمة فشقه بأن أجرى فيه جدولاً من نوره حتى بلغ السيل الزبى وقال الإمام «فالق ظلمة العدم بصباح التكوين والإيجاد وفالق ظلمة الجمادية بصباح ‏(‏العقل و‏)‏ الحياة والعقل والرشاد وفالق ظلمة الجهالة بصباح الإدراك وفالق ظلمة العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى صبحة عالم الأفلاك وفالق ظلمة الإشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات»، وقال بعض العارفين المعنى فالق ظلمة صفات النفس عن القلب بإصباح نور شمس الروح وإشراقه عليها ‏{‏وَجَعَلَ اليل‏}‏ أي ليل الحيرة في الذات البحت ‏{‏سَكَناً‏}‏ تسكن إليه أرواح العاشقين كما قال قائلهم‏:‏

زدني بفرط الحب فيك تحيرا *** وارحم حشا بلظى هواك تسعرا

أو جاعل ظلمة النفس سكن القلب يسكن إليها أحياناً للارتفاق والاسترواح أو سكنا تسكن فيه القوى البدنية وتستقر عن الاضطراب كما قيل ‏{‏والشمس‏}‏ أي شمس تجلي الصفات ‏{‏والقمر‏}‏ أي قمر تجلي الأفعال ‏{‏حُسْبَاناً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 96‏]‏ أي علمي حساب الأحوال حيث يعتبر بهما أو شمس الروح وقمر القلب محسوبين في عداد الموجودات الباقية الشريفة معتداً بهما‏.‏ أو علمي حساب الأوقات والأحوال ‏{‏وَهُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ النجوم‏}‏ أي المرشدين أو نجوم الحواس ‏{‏لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظلمات البر‏}‏ وهو علم الآداب

‏{‏والبحر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 97‏]‏ وهو علم الحقائق أو المعنى لتهتدوا بها في ظلمات بر الأجساد إلى مصالح المعاش وبحر العلوم باكتسابها بها ‏{‏وَهُوَ الذى أَنشَأَكُم‏}‏ أي أظهركم ‏{‏مّن نَّفْسٍ واحدة‏}‏ وهي النفس الكلية ‏{‏فَمُسْتَقَرٌّ‏}‏ في أرض البدن حال الظهور ‏{‏وَمُسْتَوْدَعٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 98‏]‏ في عين جمع الذات ‏{‏وَهُوَ الذى أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء‏}‏ أي من سماء الروح ماء العلم ‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَىْء‏}‏ أي كل صنف من الأخلاق والفضائل ‏{‏فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ‏}‏ أي النبات ‏{‏خُضْرًا‏}‏ زينة النفس وبهجة لها ‏{‏نُّخْرِجُ مِنْهُ‏}‏ أي الخضر ‏{‏حَبّاً مُّتَرَاكِباً‏}‏ أي أعمالا مترتبة شريفة ونيات صادقة يتقوى القلب بها ‏{‏وَمِنَ النخل‏}‏ أي نخل العقل ‏{‏مِن طَلْعِهَا‏}‏ أي من ظهور تعلقها ‏{‏قنوان‏}‏ معارف وحقائق ‏{‏دَانِيَةٌ‏}‏ قريبة التناول لظهورها بنور الروح كأنها بديهية ‏{‏وجنات مّنْ أعناب‏}‏ وهي أعناب الأحوال والأذواق ومنها تعتصر سلافة المحبة

وفي سكرة منها ولو عمر ساعة *** ترى الدهر عبداً طائعاً ولك الحكم

‏{‏والزيتون‏}‏ أي زيتون التفكر ‏{‏والرمان‏}‏ أي رمان الهمم الشريفة والعزائم النفيسة ‏{‏مُشْتَبِهاً‏}‏ كما في أفراد نوع واحد ‏{‏وَغَيْرَ متشابه‏}‏ كنوعين وفردين منهما مثلاً ‏{‏انظروا إلى ثَمَرَةٍ إِذَا أَثْمَرَ‏}‏ أي راعوه بالمراقبة عند السلوك وبدأ الحال ‏{‏وَيَنْعِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏ وهو كماله عند الوصول بالحضور ‏{‏وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الجن‏}‏ أي جن الوهم والخيال حيث أطاعوهم وانقادوا لهم ‏{‏وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ‏}‏ افتروا ‏{‏لَهُ بَنِينَ‏}‏ من العقول ‏{‏وَبَنَاتُ‏}‏ من النفوس يعتقدون أنها لتجردها مؤثرة مثله ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ منهم أنها أسماؤه وصفاته لا تؤثر إلا به جل شأنه ‏{‏سبحانه وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 100‏]‏ من تقيده بما قيدوه به جل شأنه ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار‏}‏ قال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الحادي والعشرين وأربعمائة‏:‏ يعني من كل عين من أعين الوجوه وأعين القلوب فإن القلوب ما ترى إلا بالبصر وأعين الوجوه لا ترى إلا بالبصر فالبصر حيث كان به يقع الإدراك فيسمى البصر في العقل عين البصيرة ويسمى في الظاهر بصر العين والعين في الظاهر محل للبصر والبصيرة في الباطن محل للعين الذي هو بصر في عين الوجه فاختلف الاسم عليه وما اختلف هو في نفسه فكما لا تدركه العيون بأبصارها لا تدركه البصائر بأعينها، وورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله تعالى احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم» فاشتركنا في الطلب مع الملأ الأعلى واختلفنا في الكيفية فمنا من يطلبه بفكره والملأ الأعلى له العقل وما له الفكر، ومنا من يطلبه به وليس في الملأ الأعلى من يطلبه به لأن الكامل منا هو على الصورة الإلهية التي خلقه الله تعالى عليها فلهذا يصح ممن هذه صفته أنه يطلب الله تعالى به ومن طلبه به وصل إليه فإنه لم يصل إليه غيره وأن الكامل منا له نافلة تزيد على فرائضه إذا تقرب العبد بها إلى ربه أحبه فإذا أحبه كان سمعه وبصره فإذا كان الحق بصر مثل هذا العبد رآه وأدركه ببصره لأن بصره الحق فما أدركه إلا به لا بنفسه وما ثم ملك يتقرب إلى الله تعالى بنافلة بل هم في الفرائض وفرائضهم قد استغرقت أنفاسهم فلا نفل عندهم فليس لهم مقام ينتج أن يكون الحق بصرهم حتى يدركوه به فهم عبيد اضطرار ونحن عبيد اضطرار من فرائضنا وعبيد اختيار من نوافلنا إلى آخر ما قال، وهو صريح في أن بعض الأبصار تدركه لكن من حيثية رفع الغيرية‏.‏